مرصد مينا
في الأسبوع الأول من الشهر الحالي، توغلت القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة كورسك الروسية، في ما اعتُبر أكبر هجوم بري تشهده روسيا منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد سيطرت القوات الأوكرانية على مساحات شاسعة من الأراضي الروسية، مما أثار ردود فعل متباينة بين المحللين. يأتي ذلك وسط رد روسيا بأكبر هجوم جوي على الأراضي الأوكرانية منذ بدء النزاع بين البلدين في فبراير 2022.
ووفقاً لتحليل نشرته مجلة “ناشونال إنتريست” أمس الأربعاء، يعتقد الدكتور جيمس هولمز، رئيس كرسي جيه.سي ويلي للاستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية الأميركية، أن “القيادة الأوكرانية قد ارتكبت خطأً استراتيجيًا كبيرًا”.
ويؤكد هولمز أن شن الهجوم في كورسك يمثل خطوة غير محسوبة، مشيرًا إلى أن الاستراتيجية العسكرية تتطلب تحديد الأولويات بدقة وتنفيذها بحذر، مع التركيز على الاحتفاظ بالأراضي الأوكرانية بدلاً من السعي وراء مكاسب رمزية غير مجدية.
مخاطر فتح جبهات ثانوية
ورغم أن المفكر الاستراتيجي الألماني الراحل كارل فون كلاوسفيتس كان يؤيد أحيانًا فتح مسارح قتال ثانوية لتشتيت قوة العدو في ظل ظروف معينة، إلا أنه كان يفعل ذلك بحذر شديد ويحذر من المخاطرة بالنجاح في المسرح الرئيسي للعمليات، وهو الذي يُعد في النهاية المسرح الأهم بالنسبة للقيادة العسكرية.
وبحسب تحليل الوكالة الألمانية، يرى هولمز أن الاستراتيجية تعني قبل كل شيء تحديد الأولويات وتنفيذها بحكمة، وهذا يتطلب قدراً من ضبط النفس. ومن المنظور الاستراتيجي، فإن المخاطرة بالمهم لتحقيق مكاسب أقل أهمية يعد أمرًا غير منطقي، بغض النظر عن مدى الإغراء. وفي حالة أوكرانيا، التي تواجه مخاطر كبيرة، ينبغي أن تكون الأولوية العليا للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأراضي الأوكرانية، مع السعي لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا في بداية النزاع، بدلاً من التوغل في أراضٍ روسية بهدف تحقيق مكاسب إعلامية دون فوائد حقيقية.
ثلاثية “كلاوسفيتس”: العائد والمخاطرة والموارد
ويشير كلاوسفيتس، صاحب كتاب “الحرب”، إلى أن فتح أي مسرح ثانوي أثناء القتال يجب أن يعتمد على ثلاثة محددات رئيسية: “العائد والمخاطرة والموارد”.
بمعنى آخر، يجب أن يكون لدى القيادة العسكرية الموارد الكافية لفتح هذا المسرح دون التأثير على الجهد الحربي في المسرح الرئيسي، وأن تكون المخاطر محسوبة، وأخيراً أن تكون المكاسب المتوقعة تتجاوز مجرد مكاسب بسيطة أو محببة، بل يجب أن تكون مكاسب استثنائية.
في كل الأحوال، كان كلاوسفيتس يشدد على أنه إذا لم يكن من الضروري فتح مسرح ثانوي، فمن الأفضل عدم فتحه على الإطلاق.
ويضيف هولمز: “هل يعتقد أحد أن القوات الأوكرانية تتمتع بتفوق عسكري حاسم على روسيا في المسرح الرئيسي للعمليات في شرق أوكرانيا؟ إذا كانت الإجابة بلا، فإن كييف تكون قد قامت بمخاطرة غير مقبولة بفتح جبهة ثانية في كورسك”.
وهو ما يوافق عليه كلاوسفيتس الذي كان سينتقد بلا شك القادة العسكريين والسياسيين الأوكرانيين لعدم انضباطهم الاستراتيجي.
النهج الصيني: مقاربة صن تسو وتحذيراته
وربما لن يعارض المفكر العسكري الصيني القديم صن تسو، صاحب كتاب “فن الحرب”، التوغل الأوكراني في كورسك، بل ربما كان ينصح الجنرالات الأوكرانيين باتباع نهج انتهازي ومرن في التعامل مع العمليات في ساحة المعركة، باستخدام خطوط قتال “مباشرة” أو “تقليدية” وأخرى “غير مباشرة” أو “غير تقليدية”.
على السطح، قد يبدو أن غزو أوكرانيا لكورسك يعد هجومًا واسعًا غير مباشر يتماشى مع فكر صن تسو، خاصة وأن هذا الهجوم فاجأ موسكو. ولكن في جوهر الأمر، كما هو الحال مع كلاوسفيتس بعد ألفي عام، كان الحكيم الصيني دائمًا يهتم بعنصري المخاطر والموارد.
فإذا كان الجيش يتمتع بتفوق عددي كبير، ينصح الجنرال بتطويق العدو، وإذا كانت القوة أقل من قوة العدو، يتعين الحذر والتجنب. ولذلك، إذا نظرنا إلى النزاع من منظور القوة العددية بين الجيشين الروسي والأوكراني، فمن الصعب تصور أن صن تسو كان سيؤيد هذا التوغل الأوكراني في روسيا.
ويشير هولمز إلى أن الجيش الأوكراني، رغم قتاله بشكل استثنائي منذ بدء الغزو الروسي، لا يمكنه التغاضي عن حقيقة أن أوكرانيا تظل الطرف الأضعف في مواجهة خصم أكبر وأغنى بالموارد، يعتبر أن مصالحه الحيوية على المحك ومستعد لاستخدام كل الوسائل للدفاع عنها. وبالتالي، على أوكرانيا أن تتصرف وفق هذه الحقيقة.
في النهاية، يبدو أن أصوات كلاوسفيتس من القرن التاسع عشر وصوت صن تسو من أكثر من ألفي عام، توجه نصائحها لكييف بوقف عملياتها في كورسك والتركيز على الدفاع عن المصالح الأكثر أهمية.