العزيز عاموس

21 أغسطس 2024آخر تحديث :
العزيز عاموس

زواية مينا

وقد بات عاموس هوكشتاين ناقل الرسائل الأمريكية، وحَكَم مباريات الحرب التي لم تتسع ما بين لبنان وإسرائيل بعد، هل يسعنا الاكتفاء بالقول:”هو إسرائيلي من أبوين يهوديين أمريكيين مهاجرين، خدم في الجيش الإسرائيلي وكان مستشاراً لرئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز؟”.

غالبأ لا يكفي ماسبق للتعريف بالرجل فمن سيرته ما يفيد بأنه طالما دخل الملاعب القذرة، وتلك الأقل قذارة، ومن سيرته أنه في قلب مدينة نيويورك الأميركية، وبإطلالة فريدة على أحد الأركان الأربعة لحديقة “سِنترال بارك” الشهيرة، يقف فندق “ذا بيير” العريق والباهظ بطوابقه الأربعة والأربعين. عبر أبواب الفندق يسير أثرياء العالم دخولا وخروجا بدءا من أكبر الطهاة ومصممي الأزياء وحتى رجال الأعمال والملوك، لكن في ليلة من ليالي ربيع عام 2004، كان الفندق على موعد مع ضيف ثقيل من إحدى الديكتاتوريات الصغيرة والمنسية في قارة أفريقيا. لقد وصل “ميغويل بوريكو”، رئيس وزراء غينيا الاستوائية، للقاء أحد موظفي شركة “كاسِّيدي وشركاه” للعلاقات العامة والحكومية، آتيا من دولته التي لا يتجاوز تعداد سكانها مليون نسمة يرزح معظمهم تحت وطأة الفقر، رغم ما تحويه سواحلها من نفط.

لم يكُن الشاب الأميركي “آموس هوكشتاين” يعرف الكثير عن غينيا الاستوائية إلا ما أخبره به موقع “غوغل”، لكن شركته المعروفة في عالم جماعات الضغط أوكلت له ملف عميلها السخي الديكتاتور “تيودورو أوبيانغ”، رئيس غينيا الاستوائية منذ عام 1979، ، فجلس يستمع إلى رئيس وزرائه بوريكو على أي حال.

كانت العلاقات بين واشنطن ومالابو متوترة على خلفية شكوك أوبيانغ في ضلوع إدارة الرئيس جورج بوش الابن في محاولة انقلاب فاشلة عليه. ناهيك بكون البيت الأبيض تحرَّج من ظهور رئيسه علنا مع الديكتاتور، وحرمه من الصورة الوحيدة له مع بوش أثناء اجتماع مُغلَق عام 2002 .

لم يكن الحَرَج غريبا، فلطالما نظر العالم إلى أوبيانغ على أنه “ديكتاتور لا يرحم”، كيف لا والإذاعة المحلية (الوحيدة في البلاد) تقول إنه “على اتصال دائم بالله”، و”إن الرب نفسه هو مَن يمنحه القوة”.

وكانت واشنطن قد توقَّفت عن إيفاد السفراء إلى مالابو، العاصمة الغينية، منذ عام 1994 بسبب تصرفات أوبيانغ، حيث اتَّهمت مالابو السفير الأميركي بأنه يقوم بأعمال سِحر ضد الزعيم الغيني، فقط لأنه زار مقابر لضباط بريطانيين في العاصمة عام 1993. “كان بوسع أحد موظفينا أن يسمع أصوات الصراخ بسبب التعذيب في بعض الأماكن”، هكذا صرَّح سفير سابق آخر. ولكن لدهشة الجميع، بما في ذلك السفيران السابقان، انفتحت أروقة واشنطن أمام أوبيانغ بفضل الثروة النفطية، وكذلك بفضل الجهود الدؤوبة لهوكشتاين.

كان اجتماع “ذا بيير” بداية لعلاقة متينة جمعت هوكشتاين بالديكتاتورية الساحلية، التي دفعت 120 ألف دولار شهريا لشركة كاسِّيدي كي تطرق لها باب العلاقات مع إدارة بوش. وقد انفتح الباب سريعا بشكل لعل أوبيانغ نفسه لم يتوقَّعه. فبعد أشهر قليلة من اجتماع هوكشتاين وبوريكو، دُعي أوبيانغ بوصفه ضيفا خاصا على حفل توزيع جائزة “ليون سوليفان” للدبلوماسية الدولية عام 2004 بعد أن نالتها “كوندوليزا رايس”، التي استهلَّت حديثها بالإثناء على أوبيانغ. وكانت تلك صدمة للبعض، إذ إن الجائزة باسم رجل كافح ضد العنصرية في الولايات المتحدة، ولم يكن يتوقع أن يُدعى شخص مثل أوبيانغ إلى الحفل، ناهيك بأن يكون من ضيوف الشرف.

معظمنا لم يكن يعرف عاموس هذا، فكيف لنا أن نعرفه إن لم يدخل لبنان؟

ها هو ذا ضيف دائم على لبنان، يتجوّل ما بين مبعوثين لله، الأول هو بنيامين نتنياهو المرشح ليكون ملك إسرائيل وفاتح بوابات القيامة للوعد، وحسن نصر الله نائب روح الله وحامل رسالة خامنئي إلى “المهدي المنتظر” ، ولكل منهما ما يكفي للقول بأنهما رسولان فاشيان، في منطقة قد تلتهمها النيران.

نقول حامل رسائل، فما هي رسائله التي يحملها إلى لبنان؟

خلال زيارته لبنان قبل يوم من مفاوضات وقف حرب غزة، اعتبر آموس هوكشتاين أنّ “ردم الهوّة بين حماس وإسرائيل ممكن. فهي ليست كبيرة، وسبق لحماس أن وافقت على خطّة بايدن في مايو/أيار، وإسرائيل قبلت بها في يونيو/حزيران”… وقال إنّ مكالمة الأخير الهاتفية مع بنيامين نتنياهو كانت “متشدّدة”. وأشار إلى أنّ نجاح اتّفاق الإطار “سيترك حتماً تأثيراً” على جبهة جنوب لبنان.

من حصيلة الأيام الثلاثة الماضية لهجمة الموفدين تجمعت معلومات عن بعض ما قيل في بعض اللقاءات، ومنها لم يُقَل في غيرها:

– أكّد هوكشتاين “أنّنا نجري اتصالات مع إيران”، ففَهِم بعض محدّثيه أنّها مباشرة، لثنيها عن الردّ على اغتيال إسماعيل هنية. حجّة واشنطن المعروفة أنّ “إسرائيل لم تعلن مسؤوليّتها عنه، وتمّ بتفجير عبوة داخلية لا بصاروخ من الخارج… وهنية ليس إيرانيّاً”.

– حاول في أحد لقاءاته أن يقلّل من وزن حجّة الحزب بالردّ. إذ اعتبر أنّ اغتيال فؤاد شكر جاء ردّاً على قصف مجدل شمس، موحياً بالتساوي بين تل أبيب وحارة حريك. هذا مع أنّ مسؤولين لبنانيين يعتبرون أنّ صاروخاً إسرائيلياً من القبّة الحديدية اعترض صاروخاً أطلقه الحزب، فتسبّب تفجيره بمقتل الأطفال في ملعب البلدة.

– أما وأنّ طهران والحزب سيردّان فالأفضل أن يكون ذلك محسوباً حتى لا يحصل خطأ يقود إلى انفلات الجبهات. ويفترض بالحزب أن يحسب النتائج كي لا يؤدّي أيّ ردّ إلى تدمير لبنان واقتصاده. وهذا ما لا نريده.

انطلق هوكشتاين من مجزرة بلدة مجدل شمس في الجولان ليعطي مثلاً. فقال: تصوّروا أن تقع قذيفة في مكان ما على الأراضي الإسرائيلية على باص ينقل 40 ولداً. فماذا سيحصل في هذه الحال؟

– أوحى هوكشتاين أنّ طهران تراجع حساباتها، مع أنّ ردّها والحزب آتٍ، بغضّ النظر عن وقف النار في غزة. لكنّه، حسب تقديرات لبنانية، ردٌّ قد يختلف ويكون أقلّ قوّة في حال نجح التفاوض بوقف حرب غزة. هذا هو الرهان المفترض للموفدين والمسؤولين اللبنانيين. وانطباع هؤلاء أنّ طهران وحارة حريك فضّلتا عدم تنفيذ الردّ قبل اجتماع الدوحة، حتى لا تُتَّهما بإفشاله.

– حين سئل عن الحشد العسكري الأميركي في مياه الإقليم وبعض القواعد الأميركية في المنطقة أجاب “أنّنا لا نريد الحرب بل الحلّ الدبلوماسي للأزمة ووقف الحرب في غزة الذي هو الأساس لنزع فتيل التفجير في سائر الجبهات ومنها لبنان”. وذهب به نفي نيّة الحرب إلى حدّ ذكر وسائل إعلام مقرّبة من الممانعة والحزب اعتبرت أنّه جاء لنقل تهديدات قائلاً: “أنا لا أنقل تهديداً بل أحذّر من خطأ في الحسابات. وأميركا عزّزت وجودها لتدافع عن إسرائيل لا لتخوض حرباً مع أيّ جهة”.

مسحة التفاؤل لا تعفي اللبنانيين من “العقاب الانتظاري” للضربة الانتقامية لمحور الممانعة وردّ الفعل الإسرائيلي عليها وعليهم. هذا “العقاب” سيستمرّ إلى ما بعد محادثات قطر. إذ قال هوكشتاين إنّه حتى لو نجحت المفاوضات فسيحتاج الأمر إلى بضعة أيام إضافية. يتطلّب الاتفاق إبلاغ يحيى السنوار بحصيلتها ليدلي برأيه، وليجري بنيامين نتنياهو ترتيباته داخل حكومته قبل اتّخاذه القرار. جاء كلام الموفد هوكشتاين في سياق حديثه عن جدّية ضغوط الرئيس جو بايدن لوقف الحرب.

الوقت المفترض لبلورة وقف النار سيبقي الإسرائيليين “على رجل ونصف (أو ربع)”، بانتظار الردّ الانتقامي كما قال نصر الله. لكنّ اللبنانيين هم أيضاً سيظلّون واقفين على رجل ونصف.

واليوم؟

هاهو الرجل يتنقل بين “أوبيانغات” كل منهما يدّعي أنه
يسمع صوت الله، بل ويُسمِع صوته لله.
فهل ستكون الحرب؟
هل سيوقفها؟

الاخبار العاجلة