مع كل رحلة، ومع كل زبون، يخط “أبو أحمد” حكاية جديدة على عداد سيارة الأجرة الصفراء التي أصبحت منزله الثاني. في شوارع عمّان التي لا تهدأ، حيث تتغير الوجوه وتتبدل القصص، يواصل هذا السائق الخمسيني رحلته اليومية، جامعاً بين لقمة العيش، ودور المستمع، ودفتر يوميات المدينة النابض بالحياة. اليوم، نغوص في عالم “أبو أحمد”، سائق التاكسي الذي يجسد بساطة وصبر أهل عمّان.
صباح العداد.. وبداية أخرى
تُشرق شمس عمّان على حي “جبل النزهة”، حيث يقطن أبو أحمد (54 عاماً) في منزل مستأجر منذ سنوات طويلة.
قبل أن يستيقظ أبناؤه الأربعة، يكون قد جهز لنفسه كوب قهوة وبضع تمرات، ثم يتوجه إلى سيارته التاكسي التي ركنها أمام المبنى. “الرزق بدو همّة وشغل من الفجرية”، يقول أبو أحمد بصوته الأجش الذي اكتسب نبرة هادئة من سنوات الحديث مع الركاب.
يدير مفتاح التشغيل، صوت المحرك يبعث الحياة في السيارة الصفراء. يلقي نظرة أخيرة على عداد البنزين، ويتأكد من نظافة المقاعد، ثم ينطلق إلى الشوارع الرئيسية بحثاً عن أول زبون. “كل مشوار رزق، وكل زبون قصة، وهيك بتمر الأيام”، يضيف وهو يبتسم بهدوء.
عقود خلف المقود: رحلة من التعب والإخلاص
عمل أبو أحمد سائق تاكسي لأكثر من ثلاثين عاماً.
ثلاثون عاماً شهدت فيها عمّان تحولات هائلة، وتغيرت وجوه شوارعها ومعالمها، لكن سيارة الأجرة الصفراء بقيت رفيقته الأمينة. “بلشت بهذا الشغل وأنا شاب، وربيت أولادي منه. الحمد لله، كل يوم بنطلع بنسترها”، يقول وهو يلوح بيده لسيدة تشير له على الرصيف.
يتذكر أبو أحمد كيف كانت شوارع عمّان أقل ازدحاماً، وكيف كان الناس أكثر ميلاً للحديث مع سائق التاكسي. “زمان كانت الناس تسولف أكثر، تسمع قصص، تضحك. هسا الكل مستعجل وعلى تلفونه. بس عادي، كل زمن وله ناسه”، يعلق بفلسفة بسيطة.
يوميًا، يواجه أبو أحمد تحديات جمة: زحمة السير الخانقة التي تستهلك الوقود والوقت، البحث المستمر عن مواقف، التعامل مع الزبائن المتنوعين الأطباع، ومواجهة مشقة ساعات العمل الطويلة التي تمتد لساعات متأخرة من الليل أحياناً ليوفر إيجار المنزل ومصاريف أسرته. “إيجار البيت كل شهر همّ، ومصاريف الأولاد ما بتخلص. بس ربك بيعين، والحمد لله العداد ما بيخون”.
بين القصص الإنسانية وهموم الطريق
ما يميز حياة سائق التاكسي، هو كونه شاهداً على تفاصيل حياة المدينة، يسمع عشرات القصص يومياً: طالب يركض للامتحان، عائلة ذاهبة إلى المستشفى، شاب يعود من العمل منهكاً، وسائح يبحث عن معلم تاريخي. “بتشوف الفرح والحزن، وبتسمع الهموم والأفراح. كل واحد بنزّل عندي هو كتاب مفتوح للحظات بسيطة”، يقول أبو أحمد.
يجد أبو أحمد سعادة خاصة عندما يتمكن من مساعدة زبون في مأزق، كأن يعيد محفظة منسية، أو يوصل مريضاً بسرعة إلى المستشفى في لحظة حرجة. “أحياناً بتترك الأثر الطيب بكلمة، أو بمساعدة بسيطة. هذا بيكفي”، يقول وهو يبتسم.
ومع تقدم العمر، يشعر أبو أحمد بالتعب أكثر من ذي قبل، لكنه لا يستسلم. “الشباب راح، بس العزيمة موجودة. طالما بقدر أسوق، راح أظل أشتغل عشان ولادي”.
يتمنى أبو أحمد أن يكمل أبناؤه تعليمهم ويجدوا فرص عمل أفضل، وأن يمتلك يوماً بيتاً خاصاً به بدلاً من دفع الإيجار. “الحلم بسيط، بس كبير بنفس الوقت: ستر وصحة، وبيتنا ملك إلنا”.
في نهاية اليوم الطويل، عندما تخفت أضواء المدينة، وتتعب الشوارع من ضجيجها، يعود أبو أحمد إلى منزله، يشارك عائلته وجبة العشاء، ثم يستسلم للنوم استعداداً ليوم جديد، وعدّاد جديد، وقصص جديدة تنتظره في شوارع عمّان التي لا تنام. إنه بطل صامت، يحمل على كتفيه هموم عائلته، ويروي بحكمته البسيطة حكاية كل نبضة في قلب العاصمة.