مرصد مينا
مع “رفح” ستكون القاهرة هي “أم الصبي”، فالمسألة تتعدى كمشة تراب ومدينة بالغة الصغر، ولهذا انتزعت القاهرة ملف رفح من يد “الدوحة”، لتكون هي المعنية بمصير هذه المدينة الصغرى.. وفق هاآرتس، أُبعِدت الدوحة عن مركز المنصة، وشملت التطورات مطالبة عضو مجلس النواب الأمريكي ستني بويار من الرئيس الأمريكي بـ “إعادة النظر” في العلاقات مع قطر؛ والرد الشديد لرئيس الحكومة محمد بن عبد الرحمن آل ثاني الذي بحسبه “قطر ستعيد النظر في تدخلها في الوساطة”؛ وأيضاً التقارير بأن الدوحة قد تطلب من قيادة حماس مغادرة قطر؛ وأن إيران توجهت للرئيس السوري بشار الأسد وطلبت منه فحص إمكانية استيعاب قادة حماس في بلاده (الطلب الذي رفض بشكل مطلق). هكذا تم إلقاء مهمة الوساطة بكل ثقلها على مصر.
لكن القاهرة، والكلام لـ ها آرتس، خلافاً للدوحة، “لا تقدم فقط خدمات الوساطة لصالح إسرائيل وحماس والولايات المتحدة؛ ذلك أن الاستعدادات في إسرائيل والقطاع قبل عملية رفح جعلت مصر الطرف الأكثر اهتماماً، لأن أمنها الوطني معرض للتهديد. مصر الآن شريكة في الدفاع، وتحشد كل الموارد السياسية من أجل التوصل إلى الصفقة التي ستنقذها من سيناريو التهديدات المتوقعة ما وراء الحدود في رفح.
في بداية الحرب، كانت مصر تواجه تهديداً يتمثل باقتحام مئات آلاف سكان غزة لأراضيها، لكن التهديدات أصبحت في هذه المرة واقعية وفورية”.
ـ وماذا بعد ذلك؟
ها آرتس تشتغل على تقديم الصورة:
ـ في المرحلة الأولى من إخلاء شمال القطاع، كان يمكن لنحو مليون مواطن غزي أن يتحركوا نحو الجنوب ويجدوا ملجأ محمياً لهم، ولكن العودة إلى شمال القطاع الآن غير ممكنة، أو على الأقل محدودة جداً، وتخشى مصر (وبحق) من أن يتحرك النازحون نحو الغرب الآن، إلى شبه جزيرة سيناء وما بعدها.
ـ نشر الجيش المصري في الواقع قواته على طول الحدود، وأعلنت القاهرة بأنها لن تسمح “لأي لاجئ فلسطيني” بالوصول إلى أراضيها، لكنها سارعت أيضاً إلى إقامة معسكرات خيام كبيرة في خان يونس وأعدت مساحات “محايدة” تحيطها الأسوار، التي سيتم استيعاب النازحين فيها، الذين رغم ذلك سينجحون في اجتياز الحدود.
سيكون حال مصر أكثر إحراجاً من أي وقت مضى فـ “الأمر الأخير الذي لا تحتاجه مصر هو صور وأفلام لجنودها وهم يطلقون النار على اللاجئين الفلسطينيين الذين يهربون من هنا”.
ستتابع ها آرتس :”في هذا الشأن تدرك واشنطن تخوفات مصر بشكل جيد. مواقفها أمام القاهرة منسقة أكثر مما هي أمام إسرائيل. ليس القضية الإنسانية وحدها هي التي ستكون على المحك عند احتلال رفح، بل إن شبكة العلاقات بين إسرائيل ومصر قد تصبح مواجهة مباشرة بينهما إذا أدركت مصر بأن رفح أصبحت تهديداً استراتيجياً”.
ـ ما الذي يعنيه ذلك؟
هذا يعني أن احتلال المدينة يساوي السيطرة على محور فيلادلفيا القريب من الحدود، ما يلزم بدخول قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي إلى المنطقة، التي حسب اتفاق كامب ديفيد واتفاق المعابر من العام 2005، يجب أن تكون منزوعة السلاح ولا شيء فيها إلا قوة مصرية محدودة من حيث الحجم والسلاح. إذا أصبحت منطقة الحدود ساحة معارك بين حماس والجيش الإسرائيلي، التي قد تنزلق إلى أراضي مصر، فهذا أمر سيضع القاهرة أمام معضلة سياسية وعسكرية صعبة.
ثمة ما يعني مصر ، فمصر لا تريد الوصول إلى مفترق الطرق الحاسم هذا الذي سيلزمها بفحص علاقاتها مع إسرائيل ويضعها على مسار تصادم مع الولايات المتحدة. إنهاء الحرب حيوي بالنسبة لها بدرجة لا تقل عن حماس.
غير هذا وذاك، فالمطلع على حال مصر وتداعيات حرب غزة عليها سيرى مدى الأضرار الاقتصادية التي لحقت بها منذ بداية الحرب ولاشك بأنها أضرار ضخمة فقد:
ـ تقلص حوالي نصف مداخيلها من التجارة في قناة السويس بسبب هجمات الحوثيين على مسارات الملاحة الدولية في البحر الأحمر.
ـ فرع السياحة الذي يشكل 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الخام للدولة، تقلصت مداخيله أيضاً بـ 30 في المئة.
ـ إنتاج الغاز الطبيعي انخفض، والحكومة تواجه ديناً خارجياً كبيراً (167 مليار دولار في السنة).
ـ سعر الجنيه المصري انخفض دراماتيكياً مقابل سعر الدولار (بسبب خفض الأسعار الذي طلبه صندوق النقد الدولي كشرط لإعطاء القروض التي طلبتها القاهرة).
كل ذلك يلزم مصر بالتحول من وسيط محايد وفق تعبير ها آرتس، كما يشكل دافعاً قوياً يحتاج إلى عقد الصفقة بين إسرائيل وحماس، لينهي حرب غزة.
مصر اليوم، هي الاكثر انشغالاً بـ “اليوم التالي”، وهي الاكثر انشغالاً بوضع حد لحرب، ليس ثمة ما هو أكثر عبثاً بدماء الناس منها.